(14 نوفمبر 2025، على كورنيش الإسكندرية)
أنا أكتب هذه الكلمات الآن وأنا أنظر إلى البحر.
لكن ما أراه ليس مجرد “بحر” أزرق تراه في الصور السياحية. ما أراه من هنا هو “شريان” حيوي لا يتوقف عن النبض. أرى سفن الحاويات العملاقة تصطف في الأفق، تنتظر دورها للدخول إلى “رئة” مصر.
نحن نميل، عند تحليل الاقتصاد المصري، إلى التركيز على “القاهرة” باعتبارها “العقل” و”المركز” الإداري. وهذا صحيح. لكن ما تدركه عندما تقف هنا، في الإسكندرية، هو أن القاهرة “لا تتنفس” بدون هذه المدينة.
أهمية الإسكندرية للاقتصاد المصري ليست “تاريخية” أو “ثقافية” فحسب. أهميتها “وظيفية” و”حيوية”. إنها ليست “العاصمة الثانية” كلقب شرفي؛ إنها، بالمعنى الحرفي، “الشريان الأبهر” للجسد المصري.
1. “البوابة” (The Gateway): المحرك اللوجستي
دعونا نتوقف عن “الشعر” ونتحدث “بالأرقام”. ما أراه أمامي هو “ميناء الإسكندرية” و”ميناء الدخيلة” المجاور له. هذان الميناءان معاً (ومع ميناء أبو قير) لا يتعاملان مع “جزء” من تجارة مصر الخارجية. هما يتعاملان مع “الأغلبية الساحقة” منها (أكثر من 60-70% حسب الإحصائيات).
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن “رغيف الخبز” الذي يأكله المواطن في أسوان، “القمح” الخاص به مر من هنا. “السيارة” التي تُركب في القاهرة، “أجزاؤها” دخلت من هنا. “المواد الخام” التي تشغل “مصانع” المحلة، تم تفريغها هنا. “الصادرات” المصرية (من البرتقال إلى الملابس)، “سُفّرت” إلى العالم من هنا.
إذا توقفت “هذه” البوابة عن العمل ليوم واحد، يصاب “الجسد” المصري كله بالشلل. لا يوجد موقع آخر في مصر يمتلك هذه “الأهمية الاستراتيجية” الفورية.
2. “العمود الفقري” (The Backbone): القلعة الصناعية
الخطأ الشائع هو رؤية الإسكندرية كـ “شاطئ” فقط. لكن “الإسكندرية الحقيقية” اقتصادياً تقع “خلف” هذا الكورنيش الجميل. في (العامرية، وبرج العرب، والمناطق الصناعية المحيطة).
هذه المدينة ليست “منتجعاً”، إنها “ورشة” عمل ضخمة.
إنها عاصمة مصر في:
- البتروكيماويات: (قلب صناعة البلاستيك والأسمدة في مصر).
- الصناعات الثقيلة: (الحديد والصلب).
- الصناعات الغذائية والنسيجية: (بسبب قربها من الدلتا ومن الميناء).
هذا “العمود الفقري” الصناعي لا يخدم “الإسكندرية” فقط، بل يغذي “القاهرة” وباقي المحافظات. إنها “المصنع” الذي يقف بجوار “الميناء”.
3. “الجاذبية” (The Gravity): المركز السكاني والتجاري
أخيراً، هذه المدينة ليست مجرد “ميناء” و”مصنع”. إنها “مركز جاذبية” لـ 5 إلى 6 ملايين نسمة (وتخدم الـ 20 مليوناً في غرب ووسط الدلتا).
هذا “الحجم” السكاني يخلق “اقتصاداً” داخلياً هائلاً: (سوق عقاري ضخم، خدمات صحية وتعليمية لا مركزية (جامعة الإسكندرية)، وسوق تجاري هائل).
إنها “القاهرة الثانية” فعلياً من حيث “القوة الاستهلاكية” و”الكثافة البشرية”. هي “تخفف” الضغط عن العاصمة، وتعمل “كمركز” اقتصادي مستقل ومكتفٍ ذاتياً إلى حد كبير.
(الخاتمة: العودة إلى البحر)
الهواء الذي أتنفسه الآن على الكورنيش ليس مجرد “يود”. إنه “رائحة” التجارة، والديزل، وحركة الحاويات.
لذا، عندما نحلل “الاقتصاد المصري”، يجب أن نتذكر: القاهرة هي “العقل” الذي يخطط، لكن الإسكندرية هي “الرئة” التي تتنفس، وهي “القلب” الذي يضخ “البضائع” (الدم) إلى كل ركن في البلاد.
أهميتها ليست “جزءاً” من الاقتصاد. إنها “الشرط” المسبق لعمله.

اترك تعليقاً